التعريف :
1 - الهدنة في اللغة : السكون : مأخوذ من هدن الأمر ، أو الشخص يهدن هدونا . سكن بعد الهيج ، ويقال : هادنه مهادنة : صالحه (۱) .
وفي الاصطلاح : عرفها الفقهاء بتعاريف متقاربة ، فقال الحنفية : هي الصلح على ترك القتال مدة بمال أو بغير مال إذا رأى الإمام مصلحة في ذلك (۲) .
وعند المالكية : هي عقد المسلم مع الحربي على المسالمة مدة ليس هو فيها تحت حكم الإسلام (۳) .
وقال الشافعية : إنها مصالحة أهل الحرب على ترك القتال مدة معينة بعوض أو غير عوض ، سواء من يقر بدينه ومن لا يقر به (۴) .
وعند الحنابلة هي : عقد إمام أو نائبه على ترك القتال مع غير المسلمين مدة معلومة بقدر الحاجة (۵) .
وتسمى الهدنة موادعة ، ومعاهدة ، ومسالمة ومصالحة .
__________
الألفاظ ذات الصلة :
أ - الأمان :
2 - الأمان في اللغة : عدم توقع مكروه في الزمن الآتي .
وفي الاصطلاح : رفع استباحة دم الحربي ورقه وماله حين قتاله ، أو العزم عليه مع استقراره تحت حكم الإسلام مدة ما (۶) .
والصلة بين الهدنة والأمان أن في كل منهما تأمين الكافر الحربي على نفسه وماله وعرضه .
ب - عقد الذمة :
3 - عقد الذمة هو التزامنا للكفار صيانة أموالهم وأعراضهم إلى غير ذلك بشروط نشترطها عليهم (۷) .
والصلة بين الهدنة وعقد الذمة أن كلا منهما يفيد الأمان إلا أن الهدنة أمان مؤقت ، وعقد الذمة أمان مؤبد .
__________
مشروعية الهدنة :
4 - لا خلاف بين الفقهاء في مشروعية الهدنة في الجملة (۸) ودليل مشروعيتها : الكتاب ، والسنة النبوية ، وإجماع الأمة .
فمن الكتاب قوله تعالى :
{ براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين }
{ فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين }
{ وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم }
{ إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين } { فإذا انسلخ الأشهر
الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم } { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون } { كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين (سورة التوبة) } . وقوله عز وجل : { وإن جنحوا للسلم فاجنح لها (سورة الأنفال) } .
ومن السنة : مهادنته صلى الله عليه وسلم قريشا عام الحديبية عشر سنين (۹) .
أما الإج;ماع : فقد أجمعت الأمة على مشروعية الموادعة مع غير المسلمين في الجملة ، وهي جائزة لا واجبة ، وقد تجب لضرورة كأن يترتب على تركها إلحاق ضرر بالمسلمين لا يتدارك (۱۰) .
__________
شروط عقد الهدنة :
يشترط في صحة عقد الهدنة شروط وهي :
الشرط الأول : الإمام أو نائبه :
5 - اختلف الفقهاء فيمن له ولاية عقد الهدنة على رأيين :
الرأي الأول : يرى جمهور الفقهاء ( المالكية والشافعية والحنابلة ) أن يكون العاقد للهدنة هو الإمام أو نائبه . فلا يصح أن يعقدها غير الإمام أو نائبه ؛ لما فيه من الخطر ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم هادن بني قريظة بنفسه (۱۱) وهادن قريشا بالحديبية بنفسه (۱۲) ، وأمن صفوان بن أمية عام الفتح بنفسه (۱۳) .
ولأن الإمام لإشرافه على جميع الأمور العامة أعرف بمصالحها من أشتات الناس ،
الرأي الثاني - للحنفية - : وهو أنه لا يشترط إذن الإمام للموادعة ، فيجوز عقد الموادعة لفريق من المسلمين كما يجوز للإمام ونائبه ولو بغير إذن الإمام ؛ لأن المعول عليه وجود المصلحة في عقدها ؛ فحيث وجدت جازت ، ولأن موادعة المسلمين أهل الحرب جائزة بالاتفاق كإعطاء الأمان مثلا وهو نوع من الموادعة (۱۴) .
وفرعوا على ما ذهبوا إليه بعض الأحكام وقالوا : لو أن مسلما وادع أهل حرب سنة على ألف دينار جازت موادعته ولا يحل للمسلمين أن يغزوهم ، وإن قتلوا واحدا منهم غرموا ديته لأن موادعة الواحد من المسلمين بمنزلة موادعتهم جميعا ، وإن لم يعلم الإمام حتى مضت سنة أمضى موادعته وأخذ المال فجعله في بيت المال لأن منفعة المسلمين متعينة في إمضاء الموادعة بعد مضي المدة ؛ ولأنه أخذ المال بقوة المسلمين ، فإن خوف أهل الحرب من جماعة المسلمين لا واحد منهم ، لهذا يأخذ الإمام المال من العاقد فيجعله في بيت المال .
وإن علم الإمام موادعته قبل مضي السنة فإنه ينظر في ذلك ، فإن كانت المصلحة في إمضاء تلك الموادعة أمضاها وأخذ المال فجعله في بيت المال ؛ لأن له أن ينشئ الموادعة بهذه الصفة إذا كانت المصلحة فيها ؛ فلأن يمضيها وهي قائمة أولى . فإن رأى المصلحة في إبطالها رد المال إليهم ثم نبذ إليهم العهد وقاتلهم ؛ لأن أمان المسلم كان صحيحا والتحرز عن الغدر واجب.
الشرط الثاني : المصلحة :
6 - يشترط لصحة عقد الهدنة أن يكون فيه مصلحة للمسلمين ، ولا يكفي انتفاء المفسدة لما فيه من موادعتهم بلا مصلحة ولا حاجة ، لقوله تعالى : { فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم (2) } .
والمصلحة المبيحة عقد الموادعة هي كل ما يحقق للمسلمين غرضا مقصودا شرعا ، بأن يكون بالمسلمين ضعف من قلة عدد أو عدة أو مال ، والعدو قوي ، أو بالمسلمين قوة وفي الموادعة مصلحة من نوع آخر : بأن يرجى إسلامهم بالموادعة باختلاطهم بالمسلمين ، أو يطمع في قبولهم بذل الجزية ، أو يكفوا عن معونة عدو ذي شوكة ، أو يعينوا المسلمين على قتال غيرهم من المشركين إلى غير ذلك من المنافع ، فإن لم تدع إلى عقدها حاجة فلا يجوز عقدها بالاتفاق (۱۵) .
الشرط الثالث : تعيين مدة الهدنة :
7 - اختلف الفقهاء في اشتراط تحديد مدة معينة لصحة الهدنة :
فذهب جمهور الفقهاء - المالكية والشافعية والحنابلة - إلى أنها لا تنعقد مطلقة ؛ لأن إطلاقها بلا تحديد مدتها يؤدي إلى ترك الجهاد (۱۶) .
واختلفوا في المدة المذكورة : فقال المالكية لا حد واجب لمدة الهدنة بل هي على حسب اجتهاد الإمام ورأيه ؛ إذ شرطها أن تكون في مدة بعينها لا على التأبيد ولا على الإبهام ، ثم تلك المدة لا حد لها بل يعينها الإمام باجتهاده .
لكن يندب أن لا تزيد المدة عن أربعة أشهر لاحتمال حصول قوة أو نحوها للمسلمين ، وهذا إذا استوت المصلحة في تلك المدة وغيرها وإلا تعين ما فيه المصلحة (۱۷) .
وذهب الشافعية إلى أنها توقيفية ، فهي أربعة أشهر إن كان المسلمون بقوة وكانت المصلحة في عقدها رجاء إسلامهم أو بذلهم الجزية أو غير ذلك من المصالح ، غير ضعف المسلمين .
وهي عشر سنين وما دونها إن كان بالمسلمين ضعف ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم هادن صفوان بن أمية أربعة أشهر عام الفتح رجاء إسلامه وكان المسلمون في قوة ، وهادن قريشا عام الحديبية عشر سنين وكان بالمسلمين ضعف .
وقالوا : إن زاد في الحالة الأولى على أربعة أشهر ، وعلى العشر في الحالة الثانية لم يصح العقد لأنها مخصوصة عن حظر ...
وإن هادنهم مطلقا بأن لم يقيد بمدة لم يصح ؛ لأن الإطلاق يقتضي التأييد وذلك يفضي إلى ترك الجهاد بالكلية وهو غير جائز (۱۸) .
وذهب الحنفية إلى أن عقد الموادعة يصح أن يكون مطلقا عن المدة ، ويصح أن يكون مؤقتا بمدة معينة ، فإذا رأى الإمام أن يصالح أهل الحرب أو فريقا منهم وكان في ذلك الصلح مصلحة للمسلمين فلا بأس به ؛ لقوله تعالى : { وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله } (سورة الأنفال / 61) والآية وإن كانت مطلقة لكن أجمع الفقهاء على تقييدها برؤية مصلحة للمسلمين في ذلك بآية أخرى هي قوله تعالى : { فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون} (سورة محمد / 35) ووادع رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة عام الحديبية على أن يضع الحرب بينه وبينهم عشر سنين ، ولا يقتصر جواز الموادعة على المدة المذكورة في الحديث لتعدي المعنى - وهو حاجة المسلمين - أو ثبوت مصلحتهم ودفع الشر عنهم إلى ما زاد عليها ؛ لأن مدة الموادعة تدور مع المصلحة ، وهي قد تزيد وتنقص (۱۹) .
الشرط الرابع : خلو عقد الهدنة عن شرط فاسد :
8 - لا يجوز للإمام أن يعقد الهدنة على شروط محظورة قد منع الشرع منها : كأن يهادنهم على خراج يضربونه على بلاد المسلمين ، أو على مال يحمله الإمام إليهم أو على رد ما غنم من سبي ذراريهم ؛ لأنها أموال مغنومة ، أو على دخول الحرم أو استيطان الحجاز ، أو على ترك القتال أبدا . أو على ألا يستنقذ أسرانا منهم ، فهذه وما شاكلها شروط محظورة قد منع الشرع منها فلا يجوز اشتراطها في عقد الهدنة ، فإن شرط بطلت الشروط وعلى الإمام نقضها (۲۰) ، لقوله تعالى : { فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون (سورة محمد / 35) } ولقول عمر رضي الله عنه : ترد الناس من الجهالات إلى السنة (۲۱) .
9 - من أمثلة الشروط الفاسدة في عقد الهدنة اشتراط رد من جاءنا مسلما من الكفار .
فإن شرط عدم الرد أو أطلق فلم يذكر في عقد الهدنة ردا ولا عدمه أو خص بالنساء فلا رد باتفاق الفقهاء ، وإن خص الرد بالرجال ، أو ذكر الرد ولم يخصص بنوع فقد اختلف الفقهاء في جواز الرد .
فذهب الحنفية وبعض المالكية إلى أنه إن شرط في عقد الصلح رد من جاء مسلما منهم عليهم بطل الشرط ولا يجب الوفاء به ، وقالوا : إن قوله تعالى : { فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار (سورة الممتحنة / 10) } هو دليل النسخ في حق الرجال أيضا ، إذ لا فرق بين الرجال والنساء في ذلك ، بل مفسدة رد المسلم إليهم أكبر ، ولا يغرم لأزواج المسلمات ما أنفقوا من مهورهن ، وحين شرع الرد كان في قوم لا يبالغون في تعذيب من أسلم منهم ؛ لأن كل قبيلة لا تتعرض لمن فعل ذلك من قبيلة أخرى ؛ وإنما تتولى ردعه عشيرته وهم لا يبلغون منه أكثر من القيد والسب والإهانة .
وكان بمكة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم جماعة أسلموا مثل أبي جندل وأبي بصير إلى سبعين رجلا ولم يبلغ فيهم المشركون النكاية لعشيرتهم ، والأمر الآن على خلاف ذلك (۲۲) .
وذهب جمهور الفقهاء - المالكية في المذهب والحنابلة والشافعية بالنسبة لمن له عشيرة تطلبه - إلى أنه على الإمام أن يوفي لهم بالشرط بالنسبة للرجال (۲۳) ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صالح قريشا بالحديبية على أن يرد من جاءه منهم مسلما عليهم ، فجاءه أبو جندل بن سهيل ، فقال سهيل بن عمرو : هذا يا محمد أول من أقاضيك أن ترده علي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي جندل : " يا أبا جندل ، اصبر واحتسب ، فإنا لا نغدر ، وإن الله جاعل لك فرجا ومخرجا (۲۴) . ثم جاء أبو بصير فرده (۲۵) . ثم جاءت أم كلثوم بنت عقبة فجاء أخواها في طلبها : عمارة ووليد ابنا عقبة (۲۶) ، وجاءت سعيدة زوجة الصيفي الراهب المشرك مسلمة فجاء في طلبها زوجها ، قالوا : يا محمد قد شرطت لنا رد النساء وطين الكتاب لم يجف بعد فاردد علينا نساءنا فتوقف النبي صلى الله عليه وسلم عن ردهن توقعا لأمر الله تعالى فيهن حتى نزل قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن وآتوهم ما أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ولا تمسكوا بعصم الكوافر واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم (سورة الممتحنة / 10 - 11) } .
__________
عقد الهدنة بشرط محظور للضرورة :
12 - يجوز عند الضرورة عقد الهدنة بشرط محظور ، ومن أمثلة ذلك اشتراط بذل المال للكفار .
فقد اتفق الفقهاء على عدم جواز عقد الهدنة على مال يبذله المسلمون لأهل الحرب ما لم تدع إلى ذلك ضرورة ؛ لأن الله تعالى قد أعز الإسلام وأهله وأظهره على الأديان كلها وجعل لهم الجنة قاتلين ومقتولين لقول الله تعالى { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون (سورة التوبة / 111) } ، فلم يجز مع ثواب الشهادة وعز الإسلام أن يدخلوا في ذل البذل وصغار الدفع ، أما إذا دعت إليه الضرورة فيجوز (۲۷) .
ومن صور الضرورة :
أ - أن يحاط بطائفة من المسلمين في قتال أو وطء يخافون معه الاصطلام ، فلا بأس أن يبذلوا في الدفع عن اصطلامهم مالا يحقنون به دماءهم ، فقد هم رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الخندق أن يصالح المشركين على الثلث من ثمار المدينة وشاور سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فقالا : إن كنت أمرت بشيء فامض لأمر الله ، بأمر الله سمعنا وأطعنا ، وإن كان بغير أمره لم نقبله (۲۸) .
__________
أثر الشروط الفاسدة على عقد الهدنة :
13 - اختلف الفقهاء في فساد عقد الهدنة عند اقترانه بشرط من الشروط الفاسدة .
فذهب الحنفية والحنابلة في المذهب ، والشافعية في مقابل الصحيح إلى أنه لو شرط في عقد الهدنة شرط فاسد بطل الشرط ولا يجب الوفاء به ولا تبطل الهدنة (۲۹) لأنها ليست كالبيوع من عقود المعاوضات التي تبطل بفساد الشرط ؛ لما يؤدي إليه من جهالة الثمن ؛ وليست بأوكد من عقود المناكحات التي لا تبطل بفساد المهر (۳۰) .
__________
صفة عقد الهدنة :
14 - اختلف الفقهاء في صفة عقد الهدنة أهو لازم أم جائز ؟ فذهب جمهورهم - المالكية والشافعية والحنابلة - إلى أنه عقد لازم ، فإن وقع صحيحا فليس للإمام العاقد ولا للأئمة بعده نقضه ، ولزم الوفاء به حتى تنقضي المدة ، أو يصدر منهم ما يقتضي الانتقاض من قتال أو غيره لقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} (سورة المائدة / 1) } ، وقوله عز من قائل: { فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم} (سورة التوبة / 4) فإذا مات الإمام الذي عقد العهد أو عزل فليس لمن بعده نقض العقد ؛ لأن الإمام الأول عقدها باجتهاده فلم يجز نقضه باجتهاد غيره ، وإن تبين العقد فاسدا باجتهاد الإمام الجديد ، كما لا يجوز للقاضي نقض أحكام غيره من القضاة قبله باجتهاده .
__________
آثار الهدنة :
16 - لا خلاف بين الفقهاء في أنه إذا تم عقد الهدنة مستوفيا لشروطه أمن الموادعون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وذراريهم ، ووجب على الإمام وعلى من بعده من الأئمة - إذا مات أو عزل - حمايتهم من أذى المسلمين ومن أذى أهل الذمة المقيمين في دار الإسلام لأنه أمنهم مما هو تحت حكمه وفي قبضته وفاء بالعهد ، لقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} (سورة المائدة:۱) ، وقوله عز من قائل : { فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم} (سورة التوبة:۴۱)
فلو أتلف أحد من المسلمين أو أهل الذمة عليهم شيئا فعليه الضمان .
وقد نص الحنفية على أنه لو خرج قوم من الموادعين إلى بلدة أخرى ليست بينهم وبين المسلمين موادعة ، فغزا المسلمون تلك البلدة ، فهؤلاء آمنون لا سبيل لأحد عليهم ؛ لأن عقد الموادعة أفاد الأمان لهم فلا ينتقض بالخروج إلى موضع آخر كما في الأمان المؤبد - وهو عقد الذمة - أنه لا يبطل بدخول الذمي دار الحرب كذا هذا ، وكذلك لو دخل في دار الموادعة رجل من غير دارهم بأمان ثم خرج إلى دار الإسلام بغير أمان فهو آمن لأنه لما دخل دار الموادعين بأمانهم صار كواحد من جملتهم فلو عاد إلى داره ثم دخل دار الإسلام بغير أمان كان فيئا لنا أن نقتله ونأسره لأنه لما رجع إلى داره فقد خرج من أن يكون من أهل دار الموادعة فبطل حكم الموادعة في حقه .
فإذا دخل دار الإسلام فهذا حربي دخل دار الإسلام ابتداء بغير أمان .
ولو أسر أهل دار أخرى واحدا من الموادعين فغزى المسلمون على تلك الدار كان المأسور فيئا ، ولو دخل إليهم تاجر فهو آمن ووجه الفرق أنه لما أسر فقد انقطع حكم دار الموادعة في حقه وإذا دخل تاجرا لم ينقطع (۳۱) .
__________
من تعقد له الهدنة :
أ - أهل الحرب :
17 - يجوز عقد الهدنة لأهل الحرب سواء كانوا أهل كتاب من نصارى ويهود أم غير أهل الكتاب . والأصل في هذا عموم قوله تعالى : { براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين }
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم هادن بني قريظة وهم أهل كتاب ، وهادن قريشا وقبائل عربية أخرى وكان عامتهم وثنيين (۳۲) .
__________
نقض الهدنة :
20 - عقد الهدنة إما أن يكون مؤقتا بوقت معلوم ، وإما أن يكون مطلقا عن الوقت ، فإن كان مؤقتا بوقت معلوم ينهي العهد بانتهاء الوقت من غير الحاجة إلى النبذ ، حتى كان للمسلمين أن يغزو عليهم لأن العقد المؤقت إلى غاية ينتهي بانتهاء الغاية من غير الحاجة إلى الناقض . وإذا كان واحد منهم دخل دار الإسلام بالهدنة المؤقتة فمضى الوقت وهو في دار الإسلام فهو آمن حتى يرجع إلى مأمنه لأن التعرض له يوهم الغدر والتغرير ، فيجب التحرز عنه ما أمكن (۳۳) .
وأما إن كان عقد الهدنة مطلقا عن الوقت عند من يجيز إطلاقه وهم الحنفية أو مقيدا بوقت عند من لا يجيز ذلك وهم الجمهور ، فالذي ينتقض به نوعان : تصريح ودلالة .
-فالتصريح هو النبذ صريحا .
وأما الدلالة فهي أن يوجد منهم ما يدل على النبذ (۳۴) ، ومن أمثلة النقض دلالة :
أ ) خروج قوم من دار الموادعة بإذن ملكهم وقطعهم الطريق في دار الإسلام ، لأن إذن ملكهم بذلك دلالة النبذ .
ب ) قتالهم المسلمين حيث لا شبهة لهم ، فإن كان لهم شبهة كأن أعانوا البغاة مكرهين فلا ينتقض عهدهم .
ج ) مكاتبتهم أهل الحرب بعورة للمسلمين .
د ) قتلهم مسلما أو ذميا بدار الإسلام عمدا إن لم ينكر غير القاتل عليه بعد علمه .
ه ) إيواؤهم عينا للكفار .
و ) أخذهم أموال المسلمين .
ز ) سبهم الله أو القرآن أو رسول الله صلى الله عليه وسلم (۳۵) .
ح ) فعل شيء مما اختلف في نقض عقد الذمة به (۳۶) .
__________
أحوال نقض الهدنة من قبل الكفار المهادنين :
27 - نقض الهدنة من قبل الكفار المهادنين إما أن يكون من جميعهم أو من بعضهم ، فإن كان النقض من جميعهم انتقض عهدهم جميعا وليس لواحد منهم أمان على نفس أو مال (۳۷) .
- اختلف الفقهاء في أثر هذا السب على عقد الهدنة .
فذهب جمهور الفقهاء ( المالكية والشافعية والحنابلة ) إلى أن مما ينتقض به العهد هو سبهم الله تعالى أو القرآن أو الرسول صلى الله عليه وسلم أو نبيا من الأنبياء عليهم السلام مجمعا على نبوته عندنا (۳۸) .
وذهب الحنفية إلى عدم انتقاض عقد الهدنة بسب النبي صلى الله عليه وسلم ، لأن سب النبي صلى الله عليه وسلم كفر من الكافر المهادن ؛ والكفر المقارن لعقد الهدنة لا يمنع عقد الهدنة في الابتداء فالكفر الطارئ لا يرفعه في حال البقاء (۳۹) ، روى عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت : دخل رهط من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : السام عليك ، ففهمتها ، فقلت : عليكم السام واللعنة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مهلا يا عائشة فإن الله يحب الرفق في الأمر كله ، فقلت : يا رسول الله أولم تسمع ما قالوا ؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فقد قلت : عليك (۴۰) .
ولا شك أن هذا سب منهم له صلى الله عليه وسلم ، ولو كان نقضا للعهد لقتلهم لصيرورتهم حربيين (۴۱) .
وقيد الحنفية عدم الانتقاض بما إذا لم يعلن المهادن السب ، أما إذا أعلن بالسب أو اعتاده وكان مما لا يعتقده قتل ولو امرأة ، وبه يفتى (۴۲) .
__________
رابعا : نبذ الهدنة إذا رآه الإمام أصلح :
25 - صرح الحنفية بأنه لو رأى الإمام الموادعة خيرا فوادع أهل الحرب ثم نظر فوجد موادعتهم شرا للمسلمين نبذ إلى ملكهم الموادعة وقاتلهم (۴۳) .
بلوغ المهادن مأمنه بعد نقض العهد :
26 - وعند نبذ العهد يجب إبلاغ من بدار الإسلام من أهل الهدنة إلى مأمنه ، لكن من
__________
أحوال نقض الهدنة من قبل الكفار المهادنين :
27 - نقض الهدنة من قبل الكفار المهادنين إما أن يكون من جميعهم أو من بعضهم ، فإن كان النقض من جميعهم انتقض عهدهم جميعا وليس لواحد منهم أمان على نفس أو مال (۴۴) .
وإن كان النقض من بعضهم فإما أن يظهر البعض الآخر الرضا بهذا النقض أو يسكتوا عنه أو يظهروا الكراهة له .
وإن كان النقض من بعضهم وأظهر البعض الآخر الكراهة للنقض بقول أو فعل انتقض العهد في حق الناقضين فقط (۴۵) .
الموسوعة الفقهیة الکویتیة
__________
(۵) مطالب أولي النهى 2 / 585 ، وكشاف القناع 3 / 111
(۶) مواهب الجليل 3 / 360 ، ومغني المحتاج 4 / 236 ، والسير الكبير 1 / 283 ، وقواعد الفقه للبركتي
(۷) تهذيب الفروق بهامش الفروق 3 / 23 القاعدة ( 118 ) ، وانظر جواهر الإكليل 1 / 266
(۸) جواهر الإكليل 1 / 266 ، وتحفة المحتاج 9 / 304 ، ومغني المحتاج 4 / 260 ، والمغني 8 / 459
(۹) حديث مهادنته صلى الله عليه وسلم قريشا عام الحديبية عشر سنين . أخرجه أحمد في المسند ( 4 / 325 - ط الميمنية ) من حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم
(۱۰) البحر الرائق 5 / 85 ، والبدائع 7 / 108 ، شرح الزرقاني 3 / 148 ، وحاشية الدسوقي 2 / 200 ، وتحفة المحتاج 9 / 304 ، ومغني المحتاج 4 / 260 ، وروضة الطالبين 10 / 334 ، والمغني 8 / 460 ، والحاوي 18 / 406
(۱۱) حديث مهادنته صلى الله عليه وسلم بني قريظة بنفسه أخرجه أبو داود ( 3 / 406 - ط حمص )
(۱۲) حديث مهادنته صلى الله عليه وسلم بالحديبية ، تقدم فقرة ( 4 )
(۱۳) حديث تأمينه صلى الله عليه وسلم صفوان بن أمية عام الفتح . أخرجه مالك في الموطأ ( 2 / 544 - ط الحلبي ) من حديث ابن شهاب مرسلا
(۱۴) بدائع الصنائع 7 / 108 ، والبحر الرائق 5 / 85
(۱۵) بدائع الصنائع 7 / 108 ، وفتح القدير 5 / 404 ، والبحر الرائق 5 / 85 ، وتحفة المحتاج 9 / 305 ، ومغني المحتاج 4 / 260 - 261 ، والدسوقي 2 / 206 ، والمغني 8 / 459 ، وكشاف القناع 3 / 512
(۱۶) حاشية الدسوقي 2 / 206 ، مغني المحتاج 4 / 260 ، والمغني 8 / 410
(۱۷) حاشية الدسوقي 2 / 206
(۱۸) كشاف القناع 3 / 112 ، وشرح منتهى الإرادات 2 / 125 ،126
(۱۹) تبيين الحقائق 3 / 245 ، والبحر الرائق 5 / 85 ، وفتح القدير 5 / 371
(۲۰) البدائع 7 / 109 ، والبحر الرائق 5 / 85 ، وحاشية الدسوقي 2 / 206 ، وتحفة المحتاج 9 / 306 - 307 ، ومغني المحتاج 4 / 260 - 261 ، والمغني 8 / 460 - 461
(۲۱) قول عمر رضي الله عنه : " ترد الناس من الجهالات . . . " أورده السيوطي في مفتاح الجنة ( ص 88 - ط الريان ) وعزاه إلى البيهقي في المدخل إلى السنن
(۲۲) فتح القدير 5 / 208 - 209 ، ومواهب الجليل والتاج والإكليل 3 / 386 - 387 ، وحاشية الدسوقي 2 / 206 ، وعقد الجواهر الثمينة 1 / 498
(۲۳) الحاوي الكبير 18 / 416 ، والجامع لأحكام القرآن 18 / 54 . والمغني 8 / 465 ، وحاشية الدسوقي 2 / 206 ، ومغني المحتاج 4 / 263 - 264 ، ومواهب الجليل 3 / 386 ، والإنصاف 4 / 213 - 214
(۲۴) حديث : " صالح النبي صلى الله عليه وسلم قريشا بالحديبية . . . " . أخرجه البخاري ( فتح الباري 5 / 329 ، 330 - ط السلفية ) . وقوله صلى الله عليه وسلم لأبي جندل : " يا أبا جندل اصبر واحستب . . . " أخرجه ابن إسحاق في سيرته كما في فتح الباري ( 5 / 345 - ط السلفية )
(۲۵) حديث : " رد الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي بصير . . . " أخرجه البخاري ( فتح الباري 5 / 332 - ط السلفية ) ، من حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم
(۲۶) حديث : " مجيء أم كلثوم بنت عقبة . . . " . أخرجه البخاري ( فتح الباري 5 / 329 - ط السلفية ) ، من حديث المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم
(۲۷) الحاوي 18 / 410 ، وتحفة المحتاج 9 / 306 ، والفتاوى الهندية 2 / 197 ، وشرح السير الكبير 5 / 1692 ، والمغني 8 / 460 ، وحاشية الدسوقي 2 / 206 ، وأحكام القرآن للجصاص 3 / 70 ط دار الكتاب العربي
(۲۸) حديث : " هم رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الخندق أن يصالح المشركين . . . " . أخرجه عبد الرزاق في المصنف ( 5 / 367 ، 368 - ط المجلس العلمي - بومباي )
(۲۹) الفتاوى الهندية 2 / 197 ، ومطالب أولي النهى 2 / 587 ، والمغني لابن قدامة 8 / 466 ، والحاوي للماوردي 18 / 412 ، ومغني المحتاج 4 / 261
(۳۰) الحاوي 18 / 412
(۳۱) بدائع الصنائع 7 / 109 .)
(۳۲) مغني المحتاج 4 / 260 ، وكشاف القناع 3 / 111 ، وجواهر الإكليل 1 / 269 ، والفتاوى الهندية 2 / 196 - 197 . وأحاديث المهادنة سبق تخريجها ف 5 .
(۳۳) بدائع الصنائع 7 / 109 - 110 ، وشرح السير الكبير 5 / 1710 ، ومطالب أولي النهى 2 / 591 .
(۳۴) بدائع الصنائع 7 / 109 ، ونهاية المحتاج 8 / 102 .
(۳۵) بدائع الصنائع 7 / 109 ، ونهاية المحتاج 8 / 102 ، وروضة الطالبين 9 / 237 ، وتحفة المحتاج 9 / 307 .
(۳۶) نهاية المحتاج 8 / 102 ، وروضة الطالبين 10 / 337 .
(۳۷) تبيين الحقائق 3 / 246 ، وشرح السير الكبير 5 / 1696 - 1697 ، الحاوي 18 / 440 - 441 والمغني 8 / 462 ، وحاشية الدسوقي 2 / 204 - 206 ، وجواهر الإكليل 1 / 270 .
(۳۸) شرح الزرقاني 3 / 147 ، وجواهر الأكليل 1 / 269 ، وتحفة المحتاج 9 / 302 ، ومغني المحتاج 4 / 264 ، ومطالب أولي النهى 2 / 622 .
(۳۹) حاشية ابن عابدين 3 / 278 ، 249 ، وفتح القدير 4 / 381 ط الأميرية .
(۴۰) حديث عائشة : " دخل رهط من اليهود . . . " أخرجه البخاري ( فتح الباري 11 / 41 ، 42 - ط السلفية ) ، ومسلم ( 4 / 1706 - ط الحلبي ) .
(۴۱) فتح القدير 4 / 381 ط الأميرية .
(۴۲) ابن عابدين 3 / 278 - 279 .
(۴۳) المبسوط للسرخسي 10 / 87 ، والفتاوى الهندية 2 / 197 ، وشرح السير الكبير 5 / 1697 ، تبيين الحقائق 3 / 246 .
(۴۴) تبيين الحقائق 3 / 246 ، وشرح السير الكبير 5 / 1696 - 1697 ، الحاوي 18 / 440 - 441 والمغني 8 / 462 ، وحاشية الدسوقي 2 / 204 - 206 ، وجواهر الإكليل 1 / 270 .
(۴۵) بدائع الصنائع 7 / 109 - 110 ، والبحر الرائق 5 / 86 ، وروضة الطالبين 10 / 338 ، ومطالب أولي النهى 2 / 591 ، المغني 8 / 462 .